يرتبط الحديث عن دور الأميرة فاطمة إسماعيل فى إنشاء الجامعة المصرية بتطور الفكرة نفسها، وكيفية تحول الحلم فى إنشاء هذه الجامعة إلى حقيقة واقعة، ومن ثم يجب التوقف قليلا عند تطور الفكرة ودور المساهمين فى إخراجها إلى النور وتوعية الرأى العام المصرى بأهميتها فى ترقية مدارك وأخلاق المصريين على اختلاف أديانهم، وذلك من خلال نشر الآداب والعلوم بين أبنائها.
وبادئ ذى بدء كانت الفكرة قد تواترت بين طلاب البعثات المصرية الذين أرسلوا إلى أوربا فى عصرى محمد على وخلفائه. فقد لهجت ألسنتهم عند عودتهم بالحديث عن الجامعات الأوربية وأبنيتها الضخمة، وعدد الكليات التى تحويها كل جامعة، وبيان ما فيها من العلوم والفنون، وأفاضوا فى الحديث عن مزاياها، وبيان فوائدها، وأنه لا غنى عنها لبلاد تريد أن ترقى إلى معارج المدينة، وتنتظم فى سلك الحضارة الحقيقية، إلا أن حديثهم عنها لم يكن إلا من قبيل الأحلام والأمنيات.
وقد خاضت الصحف العربية، والمجلات الوطنية فى حديثها، واقترحت على الوطنيين إنشاء جامعات فى الديار المصرية، ونقلت عدة إحصائيات عن جامعات أوربا وعددها ونفقاتها، وأكثرت الكلام فى ذلك، فى عصر الخديوى توفيق، إلا أن المصريين كانوا يرون أن نفقاتها باهظة إذا قام بها فرد واحد، ولم يكونوا متأكدين من إمكانية تحقيقها من خلال تعاون الجميع، من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية.
وشهد المجتمع التجربتين: أولها جاءت فردية، والتى قام بها أحمد باشا المنشاوى فى أواخر أيامه، حيث أعلن عن رغبته فى إنشاء جامعة فى جهة باسوس وأبى غيط، على نفقته الخاصة، وبحث مع أفاضل العلماء فيما تستلزمه هذه الجامعة من النفقات الأولية، والنفقات السنوية، وفى كيفية استحضار المعلمين والأدوات، وكانت هذه الفكرة شغله الشاغل فى سنته الأخيرة وموضوع حديثه فى الليل والنهار مع الأستاذ الشيخ محمد عبده، إلا أن المنية قد سبقته.
على أن ذلك لم يكن يعنى أن الفكرة قد ماتت أو بات أمر تحقيقها مستحيلا، بل على النقيض من ذلك تماما، زاد عدد المولعين بها، وأخذت تراود أذهان المفكرين وصفوة المثقفين والسياسيين الذين تباروا، عن رغبة حقيقية، فى الكتابة بأقلامهم على صفحات الجرائد الوطنية، داعين الناس إلى الاكتتاب، ومؤكدين على أن إنشائها بأموال الأفراد، فقراء كانوا أو أغنياء، أدل على نهوض الأمة، من إنشائها بمال فرد واحد، وحثوا الناس على التعاون فى هذا الأمر الجلل.
ولاقت الفكرة رواجا كبيرا بين الأهالى، وخاصة بين جماعة الصفوة الاجتماعية. ونحو أواخر عام 1906 نقرأ فى بعض الصحف عن اكتتاب مصطفى بك الغمراوى، وكان من وجهاء بنى سويف، بمبلغ 500 جنيها للجامعة المصرية، وتلاه اكتتابات عديدة فى جرائد مختلفة، لوجهاء آخرين وصارت الصحف تزف كل يوم بشرى من السراة. وهنا ظهر المشروع فجأة من تلقاء نفسه، وطلب عدد كبير من الحريصين على تحقيق هذه الفكرة تأليف نقابة لتلقى الاكتتابات ونشر الدعوة بصفة منتظمة. ويبدو أن بعض الصحف نسبت إلى بعض الأغنياء اكتتابات غير حقيقية طمعا منها أن يستحى أصحابها، فيحققوا الأمل، بقوة الخجل، إلا أن البناء إذا لم يكن على أساس متين، لا يلبث أن يتداعى، فكذب من كذب، وصدق من صدق.
واجتهد القائمون على الفكرة، فى إزالة العوائق المبدئية التى قد تحول دون الاستمرار فى الاكتتاب وتحقيق المشروع، فطلبوا من المكتتبين الذين ظهرت أسماؤهم على صفحات الجرائد، ومن غيرهم ممن يود تحقيق هذا المشروع، أن يحضروا بدار "المؤيد"، للبحث فى المشروع، والاتفاق على حفظه من السقوط. إلا أن بعضهم خاف أن يؤول هذا المشروع بغير المقصود منه، فأقترح الاجتماع فى محل آخر، لا يكون لصاحبه صبغة سياسية، فأستقر الرأى على أن يكون الاجتماع فى منزل سعد زغلول بك، المستشار فى محكمة الاستئناف الأهلية، ونشروا فى الجرائد دعوة للاجتماع، وحددوا له يوم 24 من شعبان 1324، الموافق 12 أكتوبر 1906.
وتم الاجتماع فى منزل سعد زغلول بجهة الإنشاء، وأيد الحاضرون اكتتابهم للجامعة، واتفقوا على عدة قرارات، كان أولها: انتخاب اللجنة التحضيرية التى مثل فيها سعد زغلول بك وكيلا للرئيس العام، وقاسم أمين بك سكرتيرا للجنة، وأسندت أمانة الصندوق إلى حسن سعيد بك الذى كان يعمل وكيلا بالبنك الألمانى الشرقى. كما حددوا ثمانية أعضاء آخرين، ولم يتم اختيار الرئيس العام، واقترحوا تأجيله إلى جلسة أخرى. واستقروا على تسمية الجامعة "بالجامعة المصرية"، وأن تنشر جميع قراراتهم ودعوتهم للناس للمساهمة فى إقامة هذه المؤسسة، بجميع الصحف المحلية عربية كانت أم أجنبية. وبعد الجلسة وقع جميع المكتتبين على المبالغ التى تبرع أو يشرع فى التبرع بها كل منهم، وبلغ الإجمالى من هذه الاكتتابات 4485 جنيها.
وحرصا من جانب القائمين على تنفيذ الفكرة، ولشدة خوفهم من أن تلقى هجوما من جانب سلطات الاحتلال أو الحكومة، أعلنوا فى نص الدعوة للمشروع والذى نشرته جميع الصحف "أن الجامعة ليس لها صبغة سياسية، ولا علاقة لها برجال السياسة، ولا المشتغلين بها، فلا يدخل فى إدارتها ولا فى دروسها ما يمس بها، على أى وجه كان. وأن الهدف من إنشائها إنما لتكون مدرسة لتعليم العلوم والآداب لكل طالب علم مهما كان جنسه ودينه". وقد وقع هذا النداء من الأمة المصرية الكريمة موقعا حسنا، وأحدث فى الأوساط والبيئات دويا هائلا، وتردد صداه فى كل نفس، وانهالت على الصحف الرسائل المؤيدة والمحبذة للمشروع. وما لبثت التبرعات من كل أريحى كريم، أن تدفقت تترى، كاشفة عن همة عظيمة، وعزم لا يلين. الدعوة للاكتتاب العام
وكان المساهمون فى الاكتتاب للمشروع فى البداية جميعا من صفوة المصريين "البكوات والأفندية" وبعض العلماء والمشايخ. ثم بدأ أمراء الأسرة الحاكمة يتابعون برعايتهم المادية وبجهودهم تسهيل مهمة إقامة هذه المؤسسة. وكان الأمير سعيد باشا حليم أول من أهتم بالأمر، وأخذ على عاتقه رئاسة "لجنة الأمراء" التى جمع لها نيفا و8000 جنية، وناشدت جريدة "المؤيد" الأمير باشا أن يبر بوعده الذى صدر منه فى باريس، بمتابعة العمل إلى النهاية. وكانت قد شكلت لجنتان، إحداهما فنية، لوضع نظام الجامعة وما يتعلق بلوازم التعليم فيها، والأخرى لجمع الاكتتابات من المتبرعين. وفى الجلسة الثانية بتاريخ 30 نوفمبر 1906 أعلنوا عن ضرورة انتخاب لجان فرعية متعددة للاكتتاب وجمع التبرعات من جميع المصريين فى كل مكان من أنحاء القطر المصرى، لأن الحكومة وأن كانت تنظر للمشروع بعين الرضا وتستحسن مبادئه، إلا أنها ترى أنه سابق لأوانه، وأن تكاليفه باهظة. ومن ثم فقد تأكد لهم ضرورة الاعتماد بعد الله على أنفسهم، وأن لا يعلقوا آمالهم على مساعدة خارجية. وتوافر بين جميع أعضاء اللجنة فكرة إسناد رئاسة المشروع لأمير من الأمراء تجتمع عليه الكلمة، حتى يضمنوا انتظام سير الإجراءات المتخذة للمشروع. كما قرروا إيداع ما يجمع من المال البنك الألمانى الشرقى، على وجه التحديد، وذلك لأنه البنك الوحيد الذى قبل أن يساعد الجامعة بإعطاء فائدة 4% سنويا، وأن يعطى مساعدة لها زيادة على ذلك 1.5% سنويا، ويكتتب بمبلغ أربعين جنيها سنويا، بحيث تستفيد الجامعة منه 5.5%. بينما عرضت جميع البنوك الأخرى فوائد أقل، كما أنهم لم يقبلوا استعادة جميع المبالغ فى أى وقت يحتاجها المشروع، فى حين قبلها البنك الألمانى الشرقى. وكان قد بلغ إجمالى الاكتتاب فى الجلسة الثانية 16536 جنيها.
وكانت جماعة الصفوة السياسية المهتمة بمشروع الجامعة على وعى كامل بمغزى المخاوف التى تطرحها الصحف الأجنبية الناطقة بلسان حال سلطات الاحتلال، والتى ادعوا فيها أن مشروع الجامعة إنما هو لأغراض سياسية، فهو "جامعة إسلامية" تنهض ضد الاحتلال، ولأجل هذا أعلن سعد زغلول، حين تولى وزارة المعارف، تنحيه عن منصب النائب للرئيس وانتخبت اللجنة قاسم بك أمين عوضا عنه.
رعاية الأمراء للمشروع وقعدت الجلسة الثالثة فى 19 يناير 1907، وأعلن قاسم بك أمين أن الخديوى، تفضل بجعل اللجنة تحت رعاية سموه، وبجعل ولى عهده الكريم رئيس شرف لها. وكتب قاسم بك أمين إلى الأمير "أحمد فؤاد باشا" يعرض عليه الرئاسة، وهناك نص الخطاب: دولتلو أفندم الأمير "أحمد فؤاد باشا" لما عرضنا أمس على أعضاء لجنة إدارة الجامعة، ما تفضلتم به دولتكم، من العناية بأمر الجامعة، والاستعداد لتعضيد مشروعها، قابلوا هذه البشرى بالسرور، ووثقوا بالفوز القريب، وقرروا إيفاد وفد منهم لتقديم الشكر لدولتكم. وهم محمد علوى باشا، ويوسف صديق باش، وحنفى بك ناصف، وحسن بك سعيد. فإذا تكرمتم بقبولهم، أرجو إخبارى باليوم والساعة اللذين تتفضلون بتحديدها لذلك، وأرجو قبول احترام عبدكم الخاضع. فى 22 ديسمبر سنة 1907. إمضاء : قاسم أمين
وفى يوم الجمعة 31 يناير 1908 اجتمعت الجمعية العمومية برئاسة قاسم أمين بك، وأعلن بهذه الجلسة قبول دولة الأمير أحمد فؤاد الرئاسة. واجتمعت اللجنة برئيسها الجديد للمرة الأولى بسراى الأمير "أحمد فؤاد باشا" فى 12 مارس 1908، وتفاوضوا فى البحث عن الوسائل التى توصلهم لإنجاز المشروع. وهنا بدأت بالفعل الخطوات الجادة الضامنة لاستمرار تقدم المشروع بخطى سديدة، فقد اتفقوا على أن أول عمل يجب البدء به هو: الإرسالية والتدريس.
وهكذا قطعت الفكرة فى سبيل الخروج إلى ميدان التنفيذ شوطا بعيدا، وانتشرت فكرتها فى جميع البيئات، ووجدت لها صدى فى نفس كل مصرى. وقام الخاص والعام بتأييدها، والعمل على نصرتها، وانثالت التبرعات من سراة القطر وأغنيائه. وأعلن الخديوى عباس حلمى الثانى عن منحه للمشروع 5000 جنيها سنويا، مما جعل المشروع يتحرك بخطى أسرع. وبدأت عملية إرسال البعوث، ووضعت البرامج ودعيت الأساتذة، ثم اعترفت بها الحكومة المصرية كإحدى المنشآت ذات المنافع العامة، فلم يبق إلا أن تحتفل الأمة المصرية بافتتاح هذه المؤسسة الجليلة، وهذا الصرح المنيف.